فصل: فصل: في أن ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

وللناس في الصلاة نصف النهار يوم الجمعة وغيرها أقوال‏:‏

قيل بالنهي مطلقاً وهو المشهور عن أحمد‏.‏ وقيل‏:‏ الإذن مطلقاً، كما اقتضاه كلام الخِرْقِي، ويروي عن مالك‏.‏ وقيل‏:‏ بالفرق بين الجمعة وغيرها، وهو مذهب الشافعي، وأباحه فيها عطاء في الشتاء، دون الصيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمرو بن عَبَسَة‏:‏ ‏(‏ثم بعد طلوعها صل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل / الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإنه ـ حينئذ ـ تُسْجَر جهنم‏.‏ فإذا أقبل الفيء فصل‏)‏‏.‏

فعلل النهي ـ حينئذ ـ بأنه حينئذ تسجر جهنم‏.‏ وفي الطلوع والغروب بمقارنة الشيطان، فقال‏:‏ ‏(‏ثم اقصر عـن الصـلاة حتى تطلـع، فإنها تطلع بين قرني شـيطان‏)‏‏.‏ وفي الغـروب قـال‏:‏ ‏(‏ثم أقصر عـن الصلاة حتى تغـرب فـإنها تغـرب بين قرني شيطان‏)‏‏.‏ وأما مقارنة الشيطان لها حين الاستواء، فليس في شيء من الحديث إلا في حديث الصُّنَابِحي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إنها تطلـع ومعها قـرن الشيطان، فإذا ارتفعت، قارنها، ثم إذا استوت، قارنها، فإذا زالت، قـارنها، وإذا دنت للغروب، قارنها، فإذا غربت، قارنها‏)‏، فنهي رسـول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات‏.‏ لكن الصُّنَابحي قد قيل‏:‏ إنه لم تثبت له صحبة، فلم يسمع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف حديث عمرو بن عَبَسَة فإنه صحيح سمعه منه‏.‏

ويؤيد هذا أن عامة الأحاديث ليس فيها إلا النهي وقت الطلوع ووقت الغروب، أو بعد الصلاتين‏.‏ فدل على أن النهي نصف النهار نوع آخر له علة غير علة ذينك الوقتين‏.‏

يوضح هذا‏:‏ أن الكفار يسجدون لها وقت الطلوع، ووقت / الغروب، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأما سجودهم لها قبل الزوال، فهذا لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، ولم يعلل به‏.‏

وأيضاً، فإن ضبط هذا الوقت متعسر، فقد ثبت في الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم‏)‏‏.‏ وهذا حديث اتفق العلماء على صحته، وتلقيه بالقبول، فأخبر أن شدة الحر من فيح جهنم، وهذا موافق لقوله‏:‏ ‏(‏فإنه حينئذ تسجر جهنم‏)‏، وأمر بالإبراد، فدل على أن الصلاة منهي عنها عند شدة الحر؛ لأنه من فيح جهنم‏.‏

ففي الصيف تُسْجَر نصف النهار، فيكون النهي عن الصلاة نصف النهار في الحر، وهو يؤمر بأن يؤخر الصلاة عن الزوال حتى يبرد، لكن إذا زالت الشمس فاءت الأفياء فطالت الأظلة، بعد تناهي قصرها، وهذا مشروع في الإبراد، فلهذا كانت الصلاة جائزة من حين الزوال، كما في حديث عمرو بن عَبَسَة‏:‏ ‏(‏ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء

فصل‏)‏، فدل على أن الصلاة مشروعة من حين يقبل الفيء، فيفيء الظل‏:‏ أي يرجع من جهة المغرب إلى جهة المشرق، ويرجع في الزيادة بعد النقصان‏.‏

ولهذا قالوا‏:‏ إن لفظ الفيء مختص بما بعد الزوال، لما فيه من / معني الرجوع‏.‏ ولفظ الظل يتناول هذا وهذا، فإنه قبل طلوع الشمس يكون الظل ممتداً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏45‏]‏‏.‏ ثم إذا طلعت الشمس كانت عليه دليلا، فتميز الظل عن الضحي، ونسخت الشمس الظل، لا تزال تنسخه وهو يقصر إلى الزوال، فإذا زالت، فإنه يعاد ممتداً إلى المشرق، حيث ابتدأ بعد أن كان أول ما نسخته عن المشرق، ثم عن المغرب، ثم تفيء إلى المشرق ثم المغرب، ولم يزل يمتد ويطول إلى أن تغرب، فينسخ الظل جميع الشمس‏.‏ فلهذا قال في حديث عمرو بن عبسة‏:‏ ‏(‏ثم اقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل‏)‏‏.‏

وعلى هـذا، فمن رخص في الصلاة يوم الجمعة قال‏:‏ إنها لا تُسْجَر يوم الجمعة، كما قد روي‏.‏ وقالوا‏:‏ إنه لا يستحب الإبراد يوم الجمعة، بل يجوز عقب الزوال بالسنة الصحيحة، واتفاق الناس، وفي الإبراد مشقة للخلق‏.‏ ويجوز عند أحمد وغيره أن يصلي وقت الزوال كما فعلـه غير واحـد من الصحابة، فكيف يكون وقت نهي والجمعة جائزة فيه، والفرائض المؤداة لا تشرع في وقت النهي لغير عذر، كما قلنا في الفجر، فإن هذا تناقض‏.‏

وبالجملة جواز الصلاة وقت الزوال يوم الجمعة على أصل أحمد أظهر منه على أصل غيره، فإنه يجوز الجمعة وقت الزوال، ولا يجعل / ذلك وقت نهي، بل قد قيل في مذهبه، إنها لا تجوز إلا في ذلك الوقت، وهو الوقت الذي هو وقت نهي في غيرها‏.‏ فعلم الفرق بين الجمعة وغيرها، وكما أن الإبراد المأمور به في غيرها لا يؤمر به فيها، بل ينهي عنه، وهو معلل بأن شدة الحر من فيح جهنم، فكذلك قد علل بأنه حينئذ تسجر جهنم‏.‏ وهذا من جنس قوله‏:‏ ‏(‏فإن شدة الحر من فيح جهنم‏)‏‏.‏

وإذا كانت مختصة بما سوي يوم الجمعة، فكذلك الأخري، وعلى مقتضي هذه العلة لا ينهي عن الصلاة وقت الزوال، لا في الشتاء، ولا يوم الجمعة‏.‏ ويؤيد ذلك ما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه نهي عن الصلاة نصف النهار، إلا يوم الجمعة، وهو أرجح مما احتجوا به على أن النهي في الفجر معلق بالوقت‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وَقَالَ شيخ الإِسلام‏:‏

الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليماً‏.‏

/ فصل

في أن ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي‏.‏ فقد كتبنا فيما تقدم في الأسكندرية وغيرها كلاماً مبسوطاً في أن هذا أصح قولي العلماء وهو مذهب الشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه، اختارها أبو الخطاب‏.‏

وكنا قبل متوقفين لبعض الأدلة التي احتج بها المانعون، فلما بحثنا عن حقيقتها، وجدناها أحاديث ضعيفة، أو غير دالة، وذكرنا أن الدلائل على ذلك متعددة‏:‏

منها‏:‏ أن أحاديث الأمر بذوات الأسباب كقوله‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏)‏، عام محفوظ لا خصوص فيه‏.‏ وأحاديث النهي ليس فيها حديث واحد عام، بل كلها مخصوصة، فوجب تقديم العام الذي لا خصوص فيه، فإنه حجة باتفاق السلف والجمهور القائلين بالعموم، بخلاف الثاني، وهو أقوي منه بلا ريب‏.‏

ومنها‏:‏ أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصلاة / تحية المسجد للداخل عند الخطبة هنا بلا خلاف عنه لثبوت النص به، والنهي عن الصلاة في هذا الوقت أشد بلا ريب، فإذا فعلت هناك، فهنا أولي‏.‏

ومنها‏:‏ أن حديث ابن عمر في الصحيحين لفظه‏:‏ ‏(‏لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها‏)‏‏.‏ والتحري هو التعمد والقصد، وهذا إنما يكون في التطوع المطلق‏.‏ فأما ما له سبب فلم يتحره، بل فعله لأجل السبب، والسبب ألجأه إليه‏.‏ وهذا اللفظ المقيد المفسر يفسر سائر الألفاظ، ويبين أن النَّهي إنما كان عن التحري، ولو كان عن النوعين لم يكن للتخصيص فائدة، ولكان الحكم قد علق بلفظ عديم التأثير‏.‏

ومنها‏:‏ أنه قد ثبت جواز بعض ذوات الأســباب بعضــها بالنص، كالركعة الثانــية مــن الفجر، وكركعتي الطواف، وكالمعادة مع إمام الحي، وبعضها بالنص والإجماع كالعصر عند الغروب، وكالجنازة بعد العصر، وإذا نظر في المقتضي للجواز لم توجد له علة صحيحة، إلا كونها ذات سبب، فيجب تعليق الحكم بذلك، وإلا فما الفرق بين المعادة وبين تحية المسجد، والأمر بهذه أصح، وكذلك الكسوف قد أمر بها في أحاديث كثيرة صحيحة‏.‏

/والمقصود هنا أن نقول‏:‏ الصلاة في وقت النهي لا تخلو أن تكون مفسدة محضة، لا تشرع بحال، كالسجود للشمس نفسها، أو يكون مما يشرع في حال دون حال، والأول باطل؛ لأنه قد ثبت بالنص والإجماع، أن العصر تصلي وقت الغروب قبل سقوط القرص كله‏.‏ وثبت في الصحيحين قوله‏:‏ ‏(‏من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك‏.‏ ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك‏)‏‏.‏ والأول‏:‏ قد اتفق عليه، والثاني‏:‏ قول الجمهور‏.‏

وأبو حنيفة يفرق بين الفجر والعصر، ويقول‏:‏ إذا طلعت الشمس بطلت الصلاة؛ لأنها تبقي منهياً عنها فائتة‏.‏ والعصر إذا غربت الشمس دخل في وقت الجواز، لا في وقت النهي‏.‏ وقد ضعف أحمد والجمهور هذا الفرق، وقالوا‏:‏ الكلام في العصر وقت الغروب، فإنه وقت نهي، كما أن ما بعد الطلوع وقت نهي، وليس له أن يؤخر العصر إلى هذا الوقت، لكن يكون له عذر كالحائض تطهر، والنائم يستيقظ‏.‏ ولو قدر أنه أخرها من غير عذر، فهو مأمور بفعلها في وقت النهي، مع إمكان أن يصليها بعد الغروب‏.‏ فإذا قيل‏:‏ صلاتها في الوقت فرض‏.‏ قيل‏:‏ وقضاء الفائتة على الفور فرض؛ لقوله‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏‏.‏

/وأيضا، فإذا صلى ركعة من الفجر قبل الطلوع، فقد شرع فيها قبل وقت النهي، فهو أخف من ابتدائها وقت النهي، مع أن هذا جائز عند الجمهور‏.‏ وإذا ثبت أن الصلاة في أغلظ أوقات النهي ـ وهو وقت الطلوع والغروب ليس مفسدة محضة ـ لا تشرع بحال، بل تشرع في بعض الأحوال، عُلِمَ أن وجود بعض الصلوات في هذه الأوقات لا يوجب مفسدة النهي، إذ لو وجدت، لما جاز شيء من الصلوات‏.‏

وإذا كان كذلك، فالشرع قد استقر على أن الصلاة، بل العبادة التي تفوت إذا أخرت تفعل بحسب الإمكان في الوقت، ولو كان في فعلها من ترك الواجب وفعل المحظور ما لايسوغ عند إمكان فعله في الوقت،مثل الصلاة بلا قراءة، وصلاة العريان، وصلاة المريض وصلاة المستحاضة، ومن به سلس البول، والصلاة مع الحدث بلا اغتسال ولا وضوء، والصلاة إلى غير القبلة، وأمثال ذلك من الصلوات التي لا يحرم فعلها، إذا قدر أن يفعلها على الوجه المأمور به في الوقت‏.‏ ثم إنه يجب عليه فعلها في الوقت مع النقص لئلا يفوت، وإن أمكن فعلها بعد الوقت على وجه الكمال‏.‏ فعلم أن اعتبار الوقت في الصلاة مقدم على سائر واجباتها، وهذا في التطوع كذلك؛، فإنه إذا لم يمكنه أن يصلي إلا عريانا، أو إلى غير القبلة، أو مع سلس البول، صلى كما / يصلي الفرض؛ لأنه لو لم يفعل إلا مع الكمال تعذر فعله، فكان فعله مع النقص خيراً من تعطيله‏.‏

وإذا كان كذلك، فذوات الأسباب إن لم تفعل وقت النهي فاتت وتعطلت، وبطلت المصلحة الحاصلة به، بخلاف التطوع المطلق، فإن الأوقات فيها سعة، فإذا ترك في أوقات النهي، حصلت حكمة النهي، وهو قطع للتشبه بالمشركين الذين يسجدون للشمس في هذا الوقت، وهذه الحكمة لا يحتاج حصولها إلى المنع من جميع الصلوات، كما تقدم، بل يحصل المنع من بعضها فيكفي التطوع المطلق‏.‏

وأيضاً، فالنهي عن الصلاة فيها هو من باب سد الذرائع لئلا يتشبه بالمشركين، فيفضي إلى الشرك، وما كان منهياً عنه لسد الذريعة لا لأنه مفسدة في نفسه يشرع إذا كان فيها مصلحة راجحة، ولا تفوت المصلحة لغير مفسدة راجحة‏.‏ والصلاة للّه فيه ليس فيها مفسدة، بل هي ذريعة إلى المفسدة فإذا تعذرت المصلحة إلا بالذريعة، شرعت واكتفي منها إذا لم يكن هناك مصلحة‏.‏ وهو التطوع المطلق‏.‏ فإنه ليس في المنع منه مفسدة، ولا تفويت مصلحة، لإمكان فعله في سائر الأوقات‏.‏

وهذا أصل لأحمد وغيره في أن ما كان من باب سد الذريعة، إنما ينهي عنه إذا لم يحتج إليه، وإما مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به، وقد ينهي عنه؛ ولهذا يفرق في العقود بين الحيل وسد الذرائع‏.‏ فالمحتال‏:‏/ يقصد المحرم، فهذا ينهي عنه‏.‏ وأما الذريعة‏:‏ فصاحبها لا يقصد المحرم، لكن إذا لم يحتج إليها، نهي عنها، وأما مع الحاجة فلا‏.‏

وأما مالك، فإنه يبالغ في سد الذرائع، حتى ينهي عنها مع الحاجة إليها‏.‏

وذوات الأسباب كلها تفوت إذا أخرت عن وقت النهي‏:‏ مثل سجود التلاوة، وتحية المسجد، وصلاة الكسوف، ومثل الصلاة عقب الطهارة كما في حديث بلال، وكذلك صلاة الاستخارة ـ إذا كان الذي يستخير له يفوت إذا أخرت الصلاة ـ وكذلك صلاة التوبة، فإذا أذنب فالتوبة واجبة على الفور، وهو مندوب إلى أن يصلي ركعتين ثم يتوب، كما في حديث أبي بكر الصديق‏.‏ ونحو قضاء السنن الرواتب كما قضي النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الظهر بعد العصر‏.‏ وكما أقر الرجل على قضاء ركعتي الفجر بعد الفجر، مــع أنــه يمكن تأخيرها، لكن تفوت مصلحة المبادرة إلى القضاء، فإن القضاء مأمور به على الفور في الواجب واجب، وفي المستحب مستحب‏.‏

والشافعي يجوز القضاء في وقت النهي، وإن كان لا يوجب تعجيله؛ لأنها من ذوات الأس

باب، وهي مع هذا لا تفوت بفوات / الوقت، لكن يفوت فضل تقديمها، وبراءة الذمة، كما جاز فعل الصلاة في أول الوقت للعريان والمتيمم، وإن أمكن فعلها آخر الوقت بالوضوء والسترة، لكن هو محتاج إلى براءة ذمته في الواجب، ومحتاج في السنن الرواتب إلى تكميل فرضه؛ فإن الرواتب مكملات للفرض، ومحتاج إلى ألا يزيد التفويت، فإنه مأمور بفعلها في الوقت، فكلما قرب كان أقرب إلى الأمر، مما يبعد منه‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏ فيقربها من الوقت ما استطاع، والشيخ أبو محمد المقدسي يجوز فعل الرواتب في أوقات النهي، موافقة لأبي الخطاب لكن أبو الخطاب يعمم كالشافعي، وهو الصواب‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالتطوع المطلق يفوت من قصده عمارة الأوقات كلها بالصلاة‏؟‏

قيل‏:‏ هذا ليس بمشروع، بل هو منهي عنه، ولا يمكن بشرًا أن يصلي دائمًا جميع النهار والليل، بل لابد له من وقت راحة ونوم وقد ثبت في الصحيحين أن رجالاً قال أحدهم‏:‏ أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر‏:‏ وأنا أقوم لا أنام، وقال الآخر‏:‏ لا أتزوج النساء، وقال الآخر‏:‏ لا آكل اللحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ / ‏(‏لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم‏.‏ فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏، قد قيل‏:‏ إن من جملة حكمة النهي عن التطوع المطلق في بعض الأوقات، إجمام النفوس في وقت النهي لتنشط للصلاة، فإنها تنبسط إلى ما كانت ممنوعة منه، وتنشط للصلاة بعد الراحة‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل عمن رأي رجلاً يتنفل في وقت نهي فقال‏:‏ نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في هذا الوقت، وذكر له الحديث الوارد في الكراهة‏.‏ فقال هذا‏:‏ لا أسمعه، وأصلي كيف شئت، فما الذي يجب عليه‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أما التطوع الذي لا سبب له، فهو منهي عنه بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، باتفاق الأئمة، وكان عمر بن الخطاب يضرب من يصلي بعد العصر‏.‏ فمن فعل ذلك، فإنه يعزر اتباعًا لما سنه عمر بن الخطاب ـ أحد الخلفاء الراشدين ـ إذ قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك‏.‏

وأما ما له سبب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، فهذا فيه نزاع، وتأويل‏.‏ فإن كان يصلي صلاة يسوغ فيها الاجتهاد لم يعاقب‏.‏

وأما رده الأحاديث بلا حجة، وشتم الناهي، وقوله للناهي‏:‏/ أصلي كيف شئتُ، فإنه يعزر على ذلك، إذ الرجل عليه أن يصلي كما يشرع له، لا كما يشاء هو‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن الرجل إذا دخل المسجد في وقت النهي‏:‏ هل يجوز أن يصلي تحية المسجد ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله‏.‏ هذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو قول أبي حنيفة، ومالك‏:‏ أنه لا يصليها‏.‏

والثاني‏:‏ وهو قول الشافعي، أنه يصليها، وهذا أظهر‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏)‏‏.‏ وهذا أمر يعم جميع الأوقات، ولم يعلم أنه خص منه صورة من الصور‏.‏ وأما نهيه عن الصلاة بعد طلوع الفجر وبعد غروبها، فقد خص منه صور متعددة‏.‏ منها قضاء الفوائت‏.‏ ومنها ركعتا الطواف‏.‏ ومنها المعادة مع إمام الحي، وغير ذلك‏.‏ والعام المحفوظ مقدم على العام المخصوص‏.‏

/وأيضا، فإن الصلاة وقت الخطبة منهي عنها، كالنهي في هذين الوقتين، أو أوكد، ثم قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد والخطيب على المنبر، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏)‏‏.‏ فإذا كان قد أمر بالتحية في هذا الوقت، وهو وقت نهي‏.‏ فكذلك الوقت الآخر بطريق الأولي، ولم يختلف قول أحمد في هذا لمجيء السنة الصحيحة به، بخلاف أبي حنيفة ومالك فإن مذهبهما في الموضعين النهي، فإنه لم تبلغهما هذه السنة الصحيحة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن تحية المسجد‏:‏ هل تفعل في أوقات النهي أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دخــل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏)‏‏.‏ فإذا دخل وقت نهي فهل يصلي‏؟‏ على قولين للعلماء‏.‏ لكن أظهرهما أنه يصلي، فإن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الفجر، وبعد العصر قد خص من صور كثيرة‏.‏ وخص من نظيره وهو وقت الخطبة، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب، فلا /يجلس حتى يصلي ركعتين‏)‏ فإذا أمر بالتحية وقت الخطبة، ففي هذه الأوقات أولي‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل إذا توضأ قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب، وقد صلى الفجر، فهل يجوز له أن يصلي شكرًا للوضوء‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذا فيه نزاع، والأشبه أن يفعل لحديث بلال‏.‏

/ باب صلاة الجماعة

 سئل ـ رَحمه الله ـ عن صلاة الجماعة هل هي فرض عين أم فرض كفاية، أم سنة‏؟‏ فإن كانت فرض عين وصلى وحده من غير عذر‏.‏ فهل تصح صلاته أم لا‏؟‏ وما أقوال العلماء في ذلك‏؟‏ وما حجة كل منهم‏؟‏ وما الراجح من أقوالهم‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين‏.‏ اتفق العلماء على أنها من أوكد العبادات، وأجل الطاعات، وأعظم شعائر الإسلام، وعلى ما ثبت في فضلها عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة‏)‏، هكذا في حديث أبي هريرة‏.‏ وأبي سعيد‏:‏ ‏(‏بخمس وعشرين‏)‏، ومن حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏بسبع وعشرين‏)‏، والثلاثة في الصحيح‏.‏

وقد جمع بينهما‏:‏بأن حديث الخمس والعشرين، ذكر فيه الفضل / الذي بين صلاة المنفرد والصلاة في الجماعة، والفضل خمس وعشرون، وحديث السبعة والعشرين ذكر فيه صلاته منفرداً وصلاته في الجماعة والفضل بينهما، فصار المجموع سبعاً وعشرين، ومن ظن من المتنسكة أن صلاته وحده أفضل، إما في خلوته، وإما في غير خلوته، فهو مخطئ ضال‏.‏ وأضل منه من لم ير الجماعة إلا خلف الإمام المعصوم، فعطل المساجد عن الجمع والجماعات التي أمر اللّه بها ورسوله، وعمر المساجد بالبدع والضلالات التي نهي اللّه عنها ورسوله، وصار مشابهاً لمن نهي عن عبادة الرحمن، وأمر بعبادة الأوثان‏.‏

فإن اللّه ـ سبحانه ـ شرع الصلاة وغيرها في المساجد‏.‏ كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏17، 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏36،37‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏،/ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وأما مشاهد القبور ونحوها، فقد اتفق أئمة المسلمين على أنه ليس من دين الإسلام أن تخص بصلاة أو دعاء، أو غير ذلك‏.‏ ومن ظن أن الصلاة والدعاء والذكر فيها أفضل منه في المساجد، فقد كفر‏.‏ بل قد تواترت السنن في النهي عن اتخاذها لذلك‏.‏ كما ثبت في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏(‏لعن اللّه إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذر ما فعلوا‏.‏ قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً‏.‏ وفي الصحيحين ـ أيضاً ـ أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الحسن والتصاوير، فقال‏:‏ ‏(‏أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة‏)‏‏.‏ وثبت عنه في صحيح مسلم من حديث جُنْدُب أنه قال‏:‏ قبل أن يموت بخمس‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏وفي المسند عنه‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد‏)‏‏.‏ وفي موطأ مالك عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم، لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا / قبري عيداً، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏)‏‏.‏

والمقصود هنا أن أئمة المسلمين متفقون على أن إقامة الصلوات الخمس في المساجد هي من أعظم العبادات، وأجل القربات، ومن فضل تركها عليها إيثاراً للخلوة والانفراد على الصلوات الخمس في الجماعات، أو جعل الدعاء والصلاة في المشاهد أفضل من ذلك في المساجد، فقد انخلع من ربقة الدين، واتبع غير سبيل المؤمنين‏.‏ ‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏115‏]‏‏.‏ ولكن تنازع العلماء بعد ذلك في كونها واجبة على الأعيان، أو على الكفاية، أو سنة مؤكدة، على ثلاثة أقوال‏:‏

فقيل‏:‏ هي سنة مؤكدة فقط، وهذا هو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة، وأكثر أصحاب مالك، وكثير من أصحاب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد‏.‏

وقيل‏:‏ هي واجبة على الكفاية، وهذا هو المرجح في مذهب الشافعي، وقول بعض أصحاب مالك، وقول في مذهب أحمد‏.‏

وقيل‏:‏ هي واجبة على الأعيان، وهذا هو المنصوص عن أحمد / وغيره، من أئمة السلف، وفقهاء الحديث، وغيرهم‏.‏ وهؤلاء تنازعوا فيما إذا صلى منفرداً لغير عذر، هل تصح صلاته‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تصح، وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد، ذكره القاضي أبو يعلى، في شرح المذهب عنهم، وبعض متأخريهم كابن عقيل، وهو قول طائفة من السلف، واختاره ابن حزم وغيره‏.‏

والثاني‏:‏ تصح مع إثمه بالترك، وهذا هو المأثور عن أحمد، وقول أكثر أصحابه‏.‏

والذين نفوا الوجوب احتجوا بتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده‏.‏ قالوا‏:‏ ولو كانت واجبة لم تصح صلاة المنفرد، ولم يكن هناك تفضيل، وحملوا ما جاء من هم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحريق على من ترك الجمعة، أو على المنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة مع النفاق، وأن تحريقهم كان لأجل النفاق لا لأجل ترك الجماعة، مع الصلاة في البيوت‏.‏

وأما الموجبون، فاحتجوا بالكتاب والسنة والآثار‏.‏

أما الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏102‏]‏ وفيها دليلان‏:‏

/أحدهما‏:‏ أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه في صلاة الخوف، وذلك دليل على وجوبها حال الخوف، وهو يدل بطريق الأولي على وجوبها حال الأمن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه سن صلاة الخوف جماعة، وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر، كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق، وكذلك مفارقة الإمام قبل السلام عند الجمهور، وكذلك التخلف عن متابعة الإمام، كما يتأخر الصف المؤخر بعد ركوعه مع الإمام إذا كان العدو أمامهم‏.‏ قالوا‏:‏ وهذه الأمور تبطل الصلاة لو فعلت لغير عذر، فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبة لكان قد التزم فعل محظور مبطل للصلاة، وتركت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فعل مستحب، مع أنه قد كان من الممكن أن يصلوا وحدانا صلاة تامة فعلم أنها واجبة‏.‏

وأيضا، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏، إما أن يراد به المقارنة بالفعل، وهي الصلاة جماعة‏.‏ وإما أن يراد به ما يراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 119‏]‏‏.‏ فإن أريد الثاني، لم يكن فرق بين قوله‏:‏ صلوا مع المصلين، وصوموا مع الصائمين، ‏{‏وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏‏.‏ والسياق يدل على اختصاص الركوع بذلك‏.‏

/فإن قيل‏:‏ فالصلاة كلها تفعل مع الجماعة‏.‏ قيل‏:‏ خص الركوع بالذكر لأنه تدرك به الصلاة، فمن أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، فأمر بما يدرك به الركعة، كما قال لمريم‏:‏ ‏{‏اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏‏.‏ فإنه لو قيل‏:‏ اقنتي مع القانتين، لدل على وجوب إدراك القيام، ولو قيل‏:‏ اسجدي، لم يدل على وجوب إدراك الركوع، بخلاف قوله‏:‏‏{‏وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏، فإنه يدل على الأمر بإدراك الركوع وما بعده دون ما قبله، وهو المطلوب‏.‏

وأما السنة‏:‏ فالأحاديث المستفيضة في الباب، مثل حديث أبي هريرة المتفق عليه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام‏.‏ ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏)‏‏.‏ فهم بتحريق من لم يشهد الصلاة، وفي لفظ قال‏:‏ ‏(‏أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأوتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام‏)‏ الحديث‏.‏

وفي المسند وغيره‏:‏ ‏(‏لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأمرت أن تقام الصلاة‏)‏ الحديث‏.‏ فبين صلى الله عليه وسلم أنه هم بتحريق البيوت على من لم يشهد الصلاة، وبين أنه إنما منعه من ذلك من فيها من النساء والذرية، فإنهم لا يجب عليهم شهود الصلاة، وفي تحريق البيوت قتل من لا يجوز قتله، وكان ذلك بمنزلة إقامة الحد على الحبلي‏.‏

/وقد قال ـ سبحانه وتعالى ـ‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أليمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏25‏]‏

ومن حمل ذلك على ترك شهود الجمعة، فسياق الحديث يبين ضعف قوله حيث ذكر صلاة العشاء والفجر، ثم أتبع ذلك بهمه بتحريق من لم يشهد الصلاة‏.‏

وأما من حمل العقوبة على النفاق، لا على ترك الصلاة، فقوله ضعيف لأوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقيل المنافقين إلا على الأمور الباطنة، وإنما يعاقبهم على ما يظهر منهم من ترك واجب أو فعل محرم، فلولا أن في ذلك ترك واجب لما حرقهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه رتب العقوبة على ترك شهود الصلاة، فيجب ربط الحكم بالسبب الذي ذكره‏.‏

الثالث‏:‏ أنه سيأتي ـ إن شاء اللّه ـ حديث ابن أم مكتوم حيث استأذنه أن يصلي في بيته، فلم يأذن له، وابن أم مكتوم رجل مؤمن من خيار المؤمنين، أثني عليه القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم / يستخلفه على المدينة، وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الرابع‏:‏ أن ذلك حجة على وجوبها ـ أيضاً ـ كما قد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال‏:‏ من سره أن يلقي اللّه غدا مسلما، فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادي بهن، فإن اللّه شرع لنبيه سنن الهدي، وإن هذه الصلوات الخمس في المساجد التي ينادي بهن من سنن الهدي، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف‏.‏

فقد أخبر عبد اللّه بن مسعود أنه لم يكن يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وهذا دليل على استقرار وجوبها عند المؤمنين، ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو كانت عندهم مستحبة كقيام الليل، والتطوعات التي مع الفرائض، وصلاة الضحي، ونحو ذلك‏.‏ كان منهم من يفعلها، ومنهم من لا يفعلها مع إيمانه، كما قال له الأعرابي‏:‏ واللّه لا أزيد على ذلك، ولا أنقص منه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أفلح إن صدق‏)‏‏.‏ ومعلوم أن كل أمر كان لا يتخلف عنه إلا منافق كان واجباً على الأعيان،كخروجهم إلى غزوة تبوك، فإن النبي / صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين جميعاً، لم يأذن لأحد في التخلف، إلا من ذكر أن له عذراً فأذن له لأجل عذره، ثم لما رجع كشف اللّه أسرار المنافقين، وهتك أستارهم، وبين أنهم تخلفوا لغير عذر‏.‏ والذين تخلفوا لغير عذر مع الإيمان عوقبوا بالهجر، حتى هجران نسائهم لهم، حتى تاب اللّه عليهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فأنتم اليوم تحكمون بنفاق من تخلف عنها، وتجوزون تحريق البيوت عليه، إذا لم يكن فيها ذرية‏.‏

قيل له‏:‏ من الأفعال ما يكون واجبًا، ولكن تأويل المتأول يسقط الحد عنه، وقد صار اليوم كثير ممن هو مؤمن لا يراها واجبة عليه، فيتركها متأولا‏.‏ وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لأحد تأويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد باشرهم بالإيجاب‏.‏

وأيضا، كما ثبت في الصحيح والسنن‏:‏ أن أعمي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته، فأذن له، فلما ولي دعاه، فقال‏:‏ ‏(‏هل تسمع النداء‏؟‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏فأجب‏)‏، فأمره بالإجابة إذا سمع النداء؛ ولهذا أوجب أحمد الجماعة على من سمع النداء‏.‏ وفي لفظ في السنن أن ابن أم مكتوم قال يا رسول اللّه، إني رجل شاسع الدار وإن المدينة كثيرة الهوام، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن / أصلي في بيتي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏هل تسمع النداء‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏لا أجد لك رخصة‏)‏‏.‏ وهذا نص في الإيجاب للجماعة، مع كون الرجل مؤمناً‏.‏

وأما احتجاجهم بتفضيل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده، فعنه جوابان مبنيان على صحة صلاة المنفرد لغير عذر، فمن صحح صلاته قال‏:‏ الجماعة واجبة، وليست شرطا في الصحة، كالوقت فإنه لو أخر العصر إلى وقت الاصفرار كان آثما، مع كون الصلاة صحيحة، بل وكذلك لو أخرها إلى أن يبقي مقدار ركعة، كما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر‏)‏‏.‏ قال‏:‏ والتفضيل لا يدل على أن المفضول جائز، فقد قال تعالى‏:‏‏{‏إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، فجعل السعي إلى الجمعة خيراً من البيع، والسعي واجب والبيع حرام‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏

ومن قال‏:‏ لا تصح صلاة المنفرد إلا لعذر، احتج بأدلة الوجوب، قال‏:‏ وما ثبت وجوبه في الصلاة كان شرطا في الصحة، كسائر الواجبات‏.‏

/وأما الوقت فإنه لا يمكن تلافيه، فإذا فات لم يمكن فعل الصلاة فيه، فنظير ذلك فوت الجمعة، وفوت الجماعة التي لا يمكن استدراكها‏.‏ فإذا فوت الجمعة الواجبة كان آثماً، وعليه الظهر، إذ لا يمكن سوي ذلك‏.‏ وكذلك من فوت الجماعة الواجبة التي يجب عليه شهودها، وليس هناك جماعة أخري، فإنه يصلي منفرداً وتصح صلاته هنا لعدم إمكان صلاته جماعة، كما تصح الظهر ممن تفوته الجمعة‏.‏

وليس وجوب الجماعة بأعظم من وجوب الجمعة، وإنما الكلام فيمن صلى في بيته منفرداً لغير عذر، ثم أقيمت الجماعة، فهذا عندهم عليه أن يشهد الجماعة، كمن صلى الظهر قبل الجمعة عليه أن يشهد الجمعة‏.‏

واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له‏)‏‏.‏ ويؤيد ذلك قوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد‏)‏، فإن هذا معروف من كلام على وعائشة، وأبي هريرة، وابن عمر، وقد رواه الدارقطني مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقوي ذلك بعض الحفاظ‏.‏ قالوا‏:‏ ولا يعرف في كلام اللّه ورسوله حرف النفي دخل على فعل شرعي إلا لترك واجب فيه كقوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة إلا بأم القرآن‏)‏، و‏(‏لا إيمان لمن لا أمانة له‏)‏، ونحو ذلك‏.‏

/وأجاب هؤلاء عن حديث التفضيل‏.‏ بأن قالوا‏:‏ هو محمول على المعذور كالمريض ونحوه‏.‏ فإن هذا بمنزلة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد‏)‏، وأن تفضيله صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده كتفضيله صلاة القائم على صلاة القاعد‏.‏ ومعلوم أن القيام واجب في صلاة الفرض دون النفل، كما أن الجماعة واجبة في صلاة الفرض دون النفل‏.‏

وتمام الكلام في ذلك‏:‏ أن العلماء تنازعوا في هذا الحديث، وهو‏:‏ هل المراد بهما المعذور، أو غيره‏؟‏ على قولين‏:‏

فقالت طائفة‏:‏ المراد بهما غير المعذور‏.‏ قالوا‏:‏ لأن المعذور أجره تام، بدليل ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإذا كان المريض والمسافر يكتب لهما ما كانا يعملان في الصحة، والإقامة، فكيف تكون صلاة المعذور قاعداً أو منفرداً دون صلاته في الجماعة قاعداً‏؟‏‏!‏ وحمل هؤلاء تفضيل صلاة القائم على النفل دون الفرض؛ لأن القيام في الفرض واجب‏.‏

ومن قال هذا القول، لزمه أن يجوز تطوع الصحيح مضطجعاً؛ لأنه قد ثبت أنه قال‏:‏ ‏(‏ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم‏)‏‏.‏ وقد / طرد هذا الدليل طائفة من متأخري أصحاب الشافعي، وأحمد، وجوزوا أن يتطوع الرجل مضطجعاً، لغير عذر؛ لأجل هذا الحديث، ولتعذر حمله على المريض، كما تقدم‏.‏

ولكن أكثر العلماء أنكروا ذلك، وعدوه بدعة، وحدثاً في الإسلام‏.‏ وقالوا‏:‏ لا يعرف أن أحداً قط صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح‏.‏ ولو كان هذا مشروعا، لفعله المسلمون على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم، أو بعده، ولفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة لتبيين الجواز‏.‏ فقد كان يتطوع قاعداً، ويصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، فلو كان هذا سائغا لفعله، ولو مرة‏.‏ أو لفعله أصحابه‏.‏ وهؤلاء الذين أنكروا هذا ـ مع ظهور حجتهم ـ قد تناقض من لم يوجب الجماعة منهم، حيث حملوا قوله‏:‏ ‏(‏تفضل صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة‏)‏ على أنه أراد غير المعذور، فيقال لهم‏:‏ لم كان التفضيل هنا في حق غير المعذور، والتفضيل هناك في حق المعذور، وهل هذا إلا تناقض‏؟‏‏!‏

وأما من أوجب الجماعة وحمل التفضيل على المعذور، فطرد دليله، وحينئذ، فلا يكون في الحديث حجة على صحة صلاة المنفرد لغير عذر‏.‏

/وأما ما احتج به منازعهم من قوله‏:‏ ‏(‏إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم‏)‏ فجوابهم عنه‏:‏ إن هذا الحديث دليل على أنه يكتب له مثل الثواب الذي كان يكتب له في حال الصحة والإقامة؛ لأجل نيته له، وعجزه عنه بالعذر‏.‏

وهذه قاعدة الشريعة‏:‏ أن من كان عازماً على الفعل عزماً جازماً وفعل ما يقدر عليه منه، كان بمنزلة الفاعل‏.‏ فهذا الذي كان له عمل في صحته وإقامته عزمه أنه يفعله، وقد فعل في المرض والسفر ما أمكنه، فكان بمنزلة الفاعل‏.‏ كما جاء في السنن‏:‏ فيمن تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد يدرك الجماعة فوجدها قد فاتت أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة، وكما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم‏)‏، قالوا‏:‏ وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وهم بالمدينة حبسهم العذر‏)‏‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏‏.‏ فهذا ومثله يبين أن المعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح، إذا كانت نيته أن يفعل، وقد عمل ما يقدر عليه، وذلك لا يقتضي أن يكون نفس عمله مثل عمل الصحيح، فليس في الحديث أن صلاة المريض نفسها في الأجر مثل صلاة الصحيح، ولا أن صلاة المنفرد المعذور في نفسها مثل صلاة الرجل في الجماعة، / وإنما فيه أن يكتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، كما يكتب له أجر صلاة الجماعة إذا فاتته مع قصده لها‏.‏

وأيضاً، فليس كل معذور يكتب له مثل عمل الصحيح، وإنما يكتب له إذا كان يقصد عمل الصحيح، ولكن عجز عنه‏.‏ فالحديث يدل على أنه من كان عادته الصلاة في جماعـة، والصلاة قائماً، ثم ترك ذلك لمرضه، فإنه يكتب له ما كان يعمل‏.‏ وهو صحيح مقيم‏.‏ وكذلك من تطوع على الراحلة في السفر، وقد كان يتطوع في الحضر قائماً، يكتب له ما كان يعمل في الإقامة‏.‏ فأما من لم تكن عادته الصلاة في جماعة، ولا الصلاة قائماً إذا مرض،

فصلى وحده، أو صلى قاعداً، فهذا لا يكتب له مثل صلاة المقيم الصحيح‏.‏

ومن حمل الحديث على غير المعذور يلزمه أن يجعل صلاة هذا قاعداً مثل صلاة القائم، وصلاته منفرداً مثل الصلاة في جماعة، وهذا قول باطل لم يدل عليه نص ولا قياس، ولا قاله أحد‏.‏

وأيضاً، فيقال‏:‏ تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولصلاة القائم على القاعد، والقاعد على المضطجع، إنما دل على فضل هذه الصلاة على هذه الصلاة، حيث يكون كل من الصلاتين صحيحة‏.‏

/أما كون هذه الصلاة المفضولة تصح حيث تصح تلك، أو لا تصح، فالحديث لم يدل عليه بنفي ولا إثبات، ولا سيق الحديث لأجل بيان صحة الصلاة وفسادها، بل وجوب القيام والقعود، وسقوط ذلك، ووجوب الجماعة وسقوطها يتلقي من أدلة أخر‏.‏ وكذلك ـ أيضاً ـ‏:‏ كون هذا المعذور يكتب له تمام عمله أو لا يكتب له لم يتعرض له هذا الحديث، بل يتلقي من أحاديث أخر، وقد بينت سائر النصوص أن تكميل الثواب هو لمن كان يعمل العمل الفاضل وهو صحيح مقيم، لا لكل أحد‏.‏

وتثبت نصوص أخر وجوب القيام في الفرض، كقوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏(‏صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب‏)‏‏.‏ وبين جواز التطوع قاعداً لما رآهم وهم يصلون قعوداً، فأقرهم على ذلك، وكان يصلي قاعداً مع كونه كان يتطوع على الراحلة في السفر‏.‏ كذلك تثبت نصوص أخر وجوب الجماعة فيعطي كل حديث حقه، فليس بينها تعارض ولا تناف، وإنما يظن التعارض والتنافي من حملها ما لا تدل عليه، ولم يعطها حقها بسوء نظره وتأويله‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل شَيخ الإسْلام ـ رحمه اللّه ـ عن مسائل يكثر وقوعها، ويحصل الابتلاء بها، والضيق والحرج على رأي إمام بعينه‏.‏ منها‏:‏ ‏[‏مسألة الجماعة للصلاة‏]‏ هل هي واجبة أم سنة‏؟‏ وإذا قلنا‏:‏ واجبة، هل تصح الصلاة بدونها مع القدرة عليها ‏؟‏

فأجاب‏:‏

وأما الجماعة فقد قيل‏:‏ إنها سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها واجبة على الكفاية ـ وقيل‏:‏ إنها واجبة على الأعيان‏.‏ وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، فإن اللّه أمر بها في حال الخوف، ففي حال الأمن أولي، وآكد‏.‏

وأيضاً، فقد قال تعالى‏{‏وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏، وهذا أمر بها‏.‏

وأيضاً، فقد ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرخص له أن يصلي في بيته، فقال‏:‏ ‏(‏هل تسمع النداء‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فأجب‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏ما أجد لك رخصة‏)‏‏.‏ وابن أم مكتوم كان رجلا صالحاً، وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ /‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏1،2‏]‏، وكان من المهاجرين، ولم يكن من المهاجرين من يتخلف عنها إلا منافق، فعلم أنه لا رخصة لمؤمن في تركها‏.‏

وأيضاً، فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال‏:‏ ‏(‏لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏لولا ما في البيوت من النساء والذرية‏)‏‏.‏ فبين أنه إنما يمنعه من تحريق المتخلفين عن الجماعة من في البيوت من النساء والأطفال، فإن تعذيب أولئك لا يجوز؛ لأنه لا جماعة عليهم‏.‏

ومن قال‏:‏ إن هذا كان في الجمعة، أو كان لأجل نفاقهم، فقوله ضعيف‏.‏ فإن المنافقين لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقتلهم لأجل النفاق، بل لا يعاقبهم إلا بذنب ظاهر‏.‏ فلولا أن التخلف عن الجماعة ذنب يستحق صاحبه العقاب، لما عاقبهم‏.‏ والحديث قد بين فيه التخلف عن صلاة العشاء والفجر‏.‏ وقد تقدم حديث ابن أم مكتوم، وأنه لم يرخص له في التخلف عن الجماعة‏.‏

وأيضاً، فإن الجماعة يترك لها أكثر واجبات الصلاة في صلاة الخوف وغيرها، فلولا وجوبها لم يؤمر بترك بعض الواجبات لها؛ لأنه لا يؤمر بترك الواجبات لما ليس بواجب‏.‏